Friday, September 26, 2025

ترامب ووزير الحرب وعمالقة التكنولوجيا

 المسألة أكبر من الشرق الأوسط


تحذير: هذه البوست يحمل تفاصيل معقدة نسبيا 🙂


ترامب ووزير الحرب وعمالقة التكنولوجيا 

نقلا عن أ. عزت إبراهيم الصحفي بالأهرام

https://www.facebook.com/share/16Ek8K5MdT/


استضافة ترامب لقادة التكنولوجيا وشركات الذكاء الاصطناعي في البيت الأبيض ثم خروج وزير الحرب الأمريكي بدعوة لاجتماع غير مسبوق ل ٨٠٠ قائد عسكري منتشرون في جميع أنحاء العالم يستدعي تسليط الضوء علي العلاقة العميقة اليوم بين عمالقة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والمجمع الصناعي العسكري والبنتاجون .. فما هي قصة هذه العلاقة المتشابكة والمعقدة في توقيت تشعر أمريكا بالخطر من احتمال تهديد عرش القيادة العالمية؟ 


في ربيع 2017 ظهر مشروع «مايفن» كأول إشارة علنية على دخول الذكاء الاصطناعي إلى قلب العمليات العسكرية. كان الهدف بسيطاً في شكله وهو استخدام الخوارزميات لتحليل الصور القادمة من الطائرات المسيّرة. لكن هذا القرار فتح بوابة جديدة بين البنتاجون ووادي السيليكون. في مكاتب جوجل، ثار الموظفون واحتجوا على «عسكرة الخوارزميات»، بينما في البنتاغون، كان الضباط يرون أن الحرب المقبلة لن تُحسم بالدبابات بل بالبيانات.


هذا التوتر كشف اختلاف العقليات، ثقافة الشركات التي ترفع شعار “لا تؤذي احدا” في مقابل ثقافة الجيش التي ترى أن كل أداة جديدة قد تعني ميزة حاسمة في الميدان. الانسحاب العلني لجوجل أعطى انطباعاً أن وادي السيليكون متردد، لكنه لم يوقف المشروع. شركات أخرى دخلت على الخط، وتحوّل الاعتراض الأخلاقي إلى مجرد محطة عابرة.


النتيجة كانت حاسمة فقد تحول مشروع «مايفن» ليصبح مرجعاً، وأي شركة تفكر مرتين قبل أن تكرر تجربة جوجل. السوق الدفاعية أثبتت أنها أكبر من أن يتم تجاهلها، والذكاء الاصطناعي لم يعد نشاطاً مدنياً بحتاً بل أصبح عنصراً في الأمن القومي.


عام 2018 أنشأت وزارة الدفاع مركز الذكاء الاصطناعي المشترك JAIC ليكون مظلة رسمية لكل مشاريع الذكاء الاصطناعي. في أروقة البنتاغون، كان الضباط يعترفون بأن البيروقراطية بطيئة جداً لمجاراة التطور. المركز جاء كجسر بين البرمجيات المدنية وساحات الحرب.


الفكرة كانت أن يتعلم الجيش من سرعة وادي السيليكون وهي القيام بخطوات، تطوير سريع، اختبار سريع، ونقل الحلول إلى الميدان بدون سنوات انتظار. هذا التحول جعل المبرمجين يجلسون إلى جوار الجنرالات، وتحوّل الكود إلى سلاح استراتيجي.


بهذا التغيير، لم تعد العلاقة مجرد عقود شراء، بل شراكة يومية لإعادة تعريف الحرب. الجنرالات يريدون خوارزميات تحدد الأهداف، والمبرمجون يضعون شروطاً أخلاقية، لكن الطرفين يعرفان أن النتيجة ستكون عقوداً ضخمة وتأثيراً سياسياً مباشراً.


في فبراير 2019، وقع ترامب على الأمر التنفيذي 13859 لإطلاق المبادرة الوطنية للذكاء الاصطناعي. كانت لحظة فارقة. الرئيس الأميركي يربط رسمياً بين تفوق الخوارزميات وبين التفوق الجيوسياسي على الصين وروسيا.


الوثيقة حملت لغة وطنية واضحة، جعلت من تطوير الذكاء الاصطناعي واجباً قومياً. بالنسبة للشركات، كان ذلك بمثابة حصانة سياسية. فأي تعاون مع الجيش صار مغلفاً بعباءة الوطنية. أي اعتراض داخلي أصبح يُصوَّر وكأنه خيانة للمصلحة الأميركية.


النتيجة أن الباب فُتح أمام تدفق مليارات الدولارات من الإنفاق الدفاعي إلى الشركات التقنية. لم تعد هناك حدود فاصلة بين الاستثمار التجاري والتطوير العسكري، بل صار الاثنان وجهاً لعملة واحدة.


قضية عقد JEDI السحابي كانت نموذجاً على حجم الصراع. بعقد قيمته 10 مليارات دولار، كان البنتاغون يريد بناء سحابة واحدة لإدارة بياناته. الصراع بين أمازون ومايكروسوفت تحوّل إلى معركة سياسية، شارك فيها الكونجرس وحتى البيت الأبيض.


هذا العقد كشف أن السيطرة على البنية التحتية السحابية تعني التحكم في عقل الجيش الأميركي. بالنسبة للشركات، الفوز لم يكن مجرد أرباح بل مكانة لا تضاهى في قلب الدولة. بالنسبة للإدارة، كان المشروع خطوة ضرورية لمجاراة سرعة الصين في تطوير البنى الرقمية.


رغم أن العقد أُلغي لاحقاً وتحول إلى نموذج متعدد المورّدين، فإن الرسالة كانت واضحة تقول أن الجيش الأميركي لن يعود إلى الوراء، والسحابة التجارية صارت جزءاً من ترسانته.


وحدة الابتكار الدفاعي DIU لعبت دور الوسيط بين الجيش والشركات الناشئة. هذه الوحدة صممت لتجربة حلول صغيرة وسريعة، بعيداً عن الروتين العسكري. فجأة، وجد مبرمجو الشركات الناشئة أنفسهم يعملون مع البنتاجون.


هذا التغيير سمح بدخول لاعبين جدد، لم يعد السوق حكراً على لوكهيد وبوينغ وراثيون. شركات ناشئة تقدم تطبيقات برمجية أو أدوات مراقبة دخلت المنافسة، وهذا وسّع خريطة المجمع الصناعي العسكري. والنتيجة أن الثقافة العسكرية نفسها تغيرت. الجيش اعتاد على مشاريع تمتد لعقود، أما الآن فهو يختبر أدوات برمجية كل بضعة أشهر، ما جعله أكثر اعتماداً على مرونة القطاع الخاص.


احتجاج موظفي جوجل على مشروع «مايفن» كان لحظة نادرة أظهرت حدود العلاقة. آلاف التواقيع ومقالات في الصحافة فضحت التعاون العسكري. في البداية، بدا الأمر انتصاراً للقيم الأخلاقية. لكن مع مرور الوقت، ظهر أن الانسحاب لم يضر البنتاجون بقدر ما أضر جوجل. الشركة خسرت عقوداً محتملة، وعادت بعد سنوات بشروط جديدة لتشارك في مشاريع أخرى.


الدرس كان أن الشركات قد تتأثر بضغط موظفيها، لكن الدولة تملك دائماً بدائل. ومع تضخم السوق الدفاعية، صار من الصعب على أي شركة كبرى أن تبقى خارجها.


أحد المخاطر كان هشاشة سلاسل التوريد. شركات ناشئة صغيرة دخلت مشاريع دفاعية لكنها تعرّضت لاختراقات سيبرانية. تقارير أشارت إلى تسريب بيانات حساسة.

هذا الحدث كشف أن إدخال شركات صغيرة قد يوفر السرعة، لكنه يجلب أيضاً نقاط ضعف. البنتاجون اضطر لتشديد المعايير الأمنية، ما رفع الكلفة وأقصى بعض اللاعبين الصغار.


في النهاية، عزز ذلك مكانة الشركات الكبرى مثل أمازون ومايكروسوفت، لأنها وحدها قادرة على تأمين أنظمة بمستوى عالٍ من الحماية. زيادة الإنفاق الدفاعي في سنوات ترامب شكّلت بيئة مثالية لدخول شركات التكنولوجيا. وفق تقارير CSIS، ارتفع الإنفاق بنسبة 13% في أول عامين فقط. هذا وفّر سيولة ضخمة لمشاريع الذكاء الاصطناعي.


السياسة التي ربطت بين “منافسة القوى الكبرى” وبين الاستثمار في التقنيات أعطت هذه الشركات دوراً جديداً. لم تعد مجرد شركات خاصة، بل عناصر في خطة قومية لمواجهة الصين. أصبح الابتكار التجاري مثل السلاح النووي في الحرب الباردة، أداة ردع استراتيجية، تستثمر فيها الدولة بلا حدود.


شركات مثل بالانتير جسدت نموذجاً جديداً. في البداية خاضت معركة قضائية مع الجيش لإجباره على فتح مناقصاته، ثم تحولت إلى شريك استخباراتي رئيسي.

هذا التحول أوضح أن ساحة القضاء نفسها يمكن أن تكون مدخلاً للشركات إلى السوق الدفاعية. عندما كسبت بالانتير القضية، أرسلت إشارة أن الشركات التقنية تستطيع فرض نفسها بالقانون. اليوم، بالانتير تملك عقوداً ضخمة مع الاستخبارات، وتُعتبر من أهم موردي البيانات والتحليل للحكومة، وهو ما شجع شركات أخرى على خوض معارك مشابهة.


شركات مثل أندوريل التي أسسها مستثمرون شباب من وادي السيليكون نجحت في اقتناص عقود مع الجمارك الأمريكية لبناء «سور افتراضي» على الحدود.

هذا المشروع اعتمد على كاميرات ذكية وأبراج مراقبة، وأظهر أن التكنولوجيا يمكن أن تحل محل الجدران الإسمنتية. الفكرة جذبت اهتمام وزارة الدفاع لاحقاً.

هذه التجربة أثبتت أن الشركات الناشئة قادرة على تقديم حلول أمنية سريعة ورخيصة، ما جعلها جزءاً من منظومة الأمن القومي حتى خارج حدود الجيش.


عندما دخلت «سبيس إكس» سوق الأمن القومي بصواريخها القابلة لإعادة الاستخدام، تغيّر ميزان القوى. الشركة الخاصة حصلت على عقود إطلاق أقمار صناعية استخبارية. هذا القرار جمع بين الاقتصاد والسياسة. الصواريخ أرخص وأكثر كفاءة، وفي الوقت نفسه تقلل اعتماد أميركا على الشركات التقليدية. صار الفضاء نفسه ساحة جديدة للشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، ولم تعد ناسا وحدها اللاعب الأساسي.


لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي NSCAI التي ترأسها إريك شميدت، الرئيس السابق لجوجل، كانت تجسيداً صريحاً لهذه العلاقة. التقرير النهائي للجنة عام 2021 دعا لاستثمارات هائلة في الذكاء الاصطناعي العسكري. وجود شميدت نفسه كان رسالة أن وادي السيليكون لم يعد مراقباً من الخارج، بل صانع قرار في الداخل. توصياته صارت أساساً لسياسات الدفاع.

هذا أعطى الشركات نفوذاً مباشراً في صياغة الاستراتيجيات القومية، لا مجرد تنفيذها.


التجربة مع مشروع «ستارجيت» الذي ظهر مع بداية ولاية ترامب الثانية كانت مشهدية لافتة. ألتمان من OpenAI، ولاري إليسون من أوراكل، وماسايوشي سون من سوفت بانك، وقفوا إلى جانب الرئيس ليعلنوا مشروع مراكز بيانات بقيمة 500 مليار دولار. المشهد بدا كأنه إعلان قومي، لا صفقة تجارية. الرسالة السياسية أن الشركات التقنية الكبرى ليست مجرد متعاقدين، بل شركاء في “بناء الأمة الرقمية”. الاقتصاد والسياسة تداخلا في خطاب واحد: الحفاظ على التفوق الأميركي عبر مشاريع عملاقة تحشد رأس المال الخاص والدولة. هذا النوع من المسرحيات السياسية يعكس أن المجمع الصناعي لم يعد عسكرياً فقط، بل صار «صناعياً–تقنياً»، حيث يلعب المال والرمزية دور السلاح.


في الخلفية، ظل الكونجرس ساحة مشتعلة. بعض النواب الجمهوريين احتضنوا هذه الشركات باعتبارها ضمانة لمواجهة الصين، بينما آخرون اتهموها بالتحيز السياسي ضد المحافظين. هذا الانقسام جعل المشهد معقداً. البيت الأبيض كان يوفر الغطاء، لكن الكونجرس يضغط بتحقيقات واستدعاءات. جلسات الاستماع لم تكن فقط حول الخصوصية أو الأخبار الكاذبة، بل أيضاً حول العقود الدفاعية. في هذه الأجواء تعلمت الشركات لعب السياسة على جبهتين هما التقرّب من الرئيس لضمان العقود، وتهدئة الكونجرس عبر خطاب وطني واستثمارات في ولايات مهمة انتخابياً.


القصة لم تكن فقط في واشنطن. في بروكسل، الاتحاد الأوروبي فرض قوانين مثل «قانون الأسواق الرقمية» للحد من نفوذ الشركات الأميركية. زوكربيرج استغل لقاءاته مع ترامب ليضغط ضد هذه القوانين، فحوّل شكواه الخاصة إلى سياسة خارجية أميركية.


ترامب هدد بفرض رسوم جمركية على الدول التي تفرض

 ضرائب رقمية، ما حوّل النزاع إلى مواجهة بين أمريكا وأوروبا. الشركات هنا لم تكن مجرد لوبي، بل أداة في يد البيت الأبيض لصياغة سياسة تجارية. هذه المواجهة أبرزت أن المجمع الصناعي–التقني أصبح أداة في السياسة الخارجية بقدر ما هو أداة في الأمن القومي.


وزارة الدفاع لم تتوقف عند الخوارزميات، بل دخلت في شراكات مع شركات لتطوير أنظمة دفاعية جديدة. شركات مثل أندوريل بدأت تزود الجيش بأنظمة مراقبة ليلية وطائرات مسيّرة دفاعية. هذا التوسع أوضح أن الجيل الجديد من المقاولين التقنيين قادر على منافسة عمالقة مثل لوكهيد. البرمجيات صارت توازي الصواريخ في أهميتها. النتيجة أن مفهوم “المورد العسكري” تغيّر، لم يعد مرتبطاً فقط بمصانع الأسلحة، بل أيضاً بمكاتب البرمجة في كاليفورنيا.


داخل الولايات، الولايات التي استضافت مراكز بيانات ضخمة صارت ساحة نفوذ. الحكام المحليون رحبوا بالمشاريع لأنها توفر وظائف واستثمارات، لكن المجتمعات المحلية بدأت تقلق من استهلاك المياه والكهرباء. هذا الجدل جعل الطاقة والبيئة جزءاً من النقاش الأمني. فجأة، بناء مركز بيانات لم يعد قراراً اقتصادياً فقط، بل قرار سياسي يغيّر موازين القوى داخل الولايات.

بهذا الشكل، صار الذكاء الاصطناعي يعيد رسم الجغرافيا السياسية الأميركية على مستوى محلي.


المؤسسة العسكرية نفسها تغيّرت. شركات مثل ميتا وOpenAI رفعت قيوداً كانت تمنع استخدام تقنياتها في التطبيقات الدفاعية. الآن، الخوارزميات تدخل في مجالات مثل التنبؤ بالتهديدات أو دعم الطيارين. هذا التداخل بين الدفاع والتكنولوجيا لم يكن سهلاً، ضباط الجيش وجدوا أنفسهم يتعلمون لغة البرمجة، فيما المبرمجون يواجهون أسئلة عن الأخلاق والحرب. لكن النتيجة كانت ترسيخ علاقة تجعل الذكاء الاصطناعي جزءاً من سلاسل الإمداد العسكري مثل الطائرات والذخيرة.


المشهد الإعلامي لعب دوره أيضاً. ظهور قادة التكنولوجيا إلى جانب ترامب في زيارات رسمية كان بمثابة عرض قوة. الصحف ركزت على الصور، لكنها في العمق كانت رسائل إلى العالم أن “التكنولوجيا الأمريكية = القوة الأمريكية ”. هذه الرمزية خدمت البيت الأبيض في تلميع صورته، وخدمت الشركات في تعزيز مكانتها كحلفاء للدولة. الإعلام نفسه صار جزءاً من معركة النفوذ، يعكس صورة تحالف جديد بين رأس المال التقني والسلطة السياسية.


القرب من البيت الأبيض لم يلغِ المخاطر. قضايا مكافحة الاحتكار والتحقيقات من لجنة التجارة الفيدرالية ظلت قائمة. هذه القضايا كانت تذكيراً أن النفوذ السياسي لا يعفي من الرقابة المؤسسية. لكن الواقع يقول أن وجود الحماية من الرئيس جعل هذه القضايا أبطأ وأقل حدة. أحياناً تأخرت التحقيقات، وأحياناً أخرى تحولت إلى مجرد ضغوط تفاوضية. هذا الوضع كشف أن الشركات يمكن أن تشتري وقتاً بالنفوذ السياسي، لكنه وقت مؤقت، لأن القوانين تبقى سيفاً مسلطاً.


التعليم دخل هو الآخر في المعادلة. البيت الأبيض أطلق برامج لتعليم مهارات الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع الشركات. هذا جعل الشركات لاعباً في صياغة مناهج التعليم. هذا الدور وسّع نفوذها الاجتماعي، فلم تعد فقط شركات تبيع خدمات، بل مؤسسات تصوغ أجيالاً جديدة من المبرمجين. بهذا الشكل، صار نفوذها يتغلغل من قاعات الجامعات إلى قاعات البنتاغون، ما يعزز مكانتها لسنوات طويلة قادمة.


الدبلوماسية تأثرت أيضاً. عندما رافق "ألتمان" مالك اوبن ايه اي ترامب في زيارة للسعودية أو بريطانيا، كان ذلك يرمز إلى أن التكنولوجيا صارت جزءاً من الحقائب الدبلوماسية. لم تعد الزيارات عن النفط أو السلاح فقط، بل عن الخوادم والذكاء الاصطناعي. هذا الاندماج بين الاقتصاد الرقمي والسياسة الخارجية جعل الحلفاء يرون في الشركات الأميركية أذرعاً للبيت الأبيض. التنافس مع الصين وأوروبا لم يعد في المؤسسات فقط، بل أيضاً في مكاتب الشركات العالمية.


من جهة أخرى، أوروبا لم تنسَ. بروكسل معروفة بذاكرتها الطويلة، والتحقيقات القانونية قد تأتي بعد سنوات. اللوبيات تحذر الشركات من أن الانتصارات في واشنطن قد تتحول إلى غرامات لاحقاً . هذا التهديد جعل الشركات تعيش في حالة موازنة: تستفيد من قربها من البيت الأبيض لكنها تتحسب دائماً لعقوبات أوروبية محتملة.

بذلك، بقيت العلاقة مع أوروبا كظل ثقيل يحدّ من اندفاع الشركات، مهما كان الدعم السياسي الأمريكي.


المبادرات المحلية مثل إنشاء لجان تمويل الانتخابات “سوبر باك” لدعم سياسيين في كاليفورنيا أو تكساس أبرزت أن الشركات لا تكتفي بالبيت الأبيض. هي تدخل اللعبة الانتخابية لتصنع بيئة سياسية تحمي مصالحها.

هذا يعني أن نفوذها لا يقتصر على واشنطن، بل يمتد إلى المجالس المحلية والولايات. وهذا النفوذ المحلي يُترجم لاحقاً إلى ضغط على الكونجرس. بهذا الشكل، تحوّلت الشركات إلى كيانات سياسية تملك لوبياتها الخاصة، لا تقل نفوذاً عن نقابات أو جماعات مصالح تقليدية.


أحد أبرز التحولات كان براجماتية زوكربيرج وألتمان. كلاهما كان ينتقد ترامب سابقاً، لكنهما صارا من أقرب حلفائه. هذا التحول لم يكن أيديولوجياً، بل مصلحياً. الهدف كان حماية شركاتهما من التشريعات القاسية والاستفادة من التسهيلات الحكومية. هذه البراجماتية أظهرت أن التحالف بين التكنولوجيا والسلطة تحالف مصالح عابر للأيديولوجيا.


المخاطر تزداد عندما تتحول الخوارزميات إلى جزء من عمل الحكومة. أي خلل تقني أو تحيز في نموذج ذكاء اصطناعي قد يتحول إلى أزمة سياسية، لا مجرد مشكلة برمجية. هذا يضع عبئاً إضافياً على الشركات. الجودة والأمان لم تعد مسألة تسويقية، بل مسألة سيادة وطنية.

بالتالي، صار الذكاء الاصطناعي محكوماً بمعايير عسكرية صارمة، ما غيّر طبيعة عمل الشركات نفسها.


الصراع مع الصين كان دائماً الخلفية الكبرى. الإدارة الأميركية قدّمت الشراكة مع الشركات كجزء من معركة “الذكاء الاصطناعي الديمقراطي ضد الاستبدادي”.

هذا الخطاب سهّل تبرير التسهيلات للشركات أمام الرأي العام. فجأة، صار استثمار مليارات في الخوادم مسألة أمن قومي. هذه اللغة أعطت للشركات مشروعية إضافية، ورسخت أن دورها يتجاوز السوق إلى الدفاع عن “القيم الأميركية”.


في النهاية، التحالف بين المجمع الصناعي العسكري وشركات التكنولوجيا في عهد ترامب لم يكن حادثاً عابراً. كان إعادة تعريف لدور الدولة والسوق معاً.

لم تعد الشركات مجرد موردين، بل شركاء في صياغة الأمن القومي والسياسة الخارجية. ولم يعد الجيش مجرد مستهلك للتكنولوجيا، بل مكوّناً في عملية إنتاجها.

هذه المعادلة تعني أن السيادة الأميركية في القرن الحادي والعشرين لم تعد قائمة على الصواريخ وحدها، بل على الخوارزميات أيضاً.